جريدة نهضة مصر .. مصر
زويل ومستقبل مصر
أعتقد أن كثيرين قد استمتعوا بالسهرة التي قدمتها قناة دريم في حوار مع أحمد زويل، ولعل أبرز ما أثار انتباهي في هذا الحوار، حرص د. زويل علي متابعة ما يحدث في مصر، وذلك الاهتمام الذي أبداه في قراءة الأعمال الأدبية، والفكرية التي ينشرها الأدباء والمفكرون المصريون، وأذهلني كذلك هذا التفاؤل بمستقبل مصر، وهو تفاؤل نحتاجه بشدة في ظل تلك النغمة المتشائمة دائما، والتي نسمعها في كل مجلس، دون أن تكون هناك أي رؤية إيجابية في كيفية تغيير الواقع إلي أفضل.
ومن الملاحظ أن تفاؤل زويل مبني علي رؤية واضحة، وليس مجرد أحلام وردية تطير وتتبخر سريعا. ومصدر هذا التفاؤل كما عبر هو إيمان بالشخصية المصرية وقدراتها غير المحدودة علي تحدي الصعوبات. ولعل زويل هو نفسه مثال لما يقول، ليس فقط لأنه قد استطاع أن يحوز علي أكبر جائزة علمية، ولكن أيضا لأنه اعتبر أن هذا الفوز بداية جديدة لمزيد من البحث في دائرة تخصصه من ناحية، فوصل إلي الميكروسكوب الرباعي الأبعاد، وما زال مستمرا في البحث عن المزيد من العلم. ومن ناحية أخري فإن قلبه مع مصر، لم يفقد الأمل بعد أن فشل مشروعه في إنشاء مركز بحثي متميز، وإنما مازال يبحث عن بصيص نور جديد، يقدم من خلاله شيئا إلي بلده الأم. وقد أحسنت مني الشاذلي عندما قرأت نبذة عما قاله العالم عن زويل مؤكدا مصريته، وغير مستبعد لانتمائه إلي وطنه الثاني، ومعبرا عن الاحترام الذي يلاقيه علي مستوي العالم. إن شخصية زويل التي تسعي بشكل مستمر إلي إضافة جديدة علمية وإنسانية هي تعبير عن الأمل في أن تستعيد مصر قدرتها علي إبراز تلك الخصال في أبنائها الذي يعيشون علي أرضها، وبهم وحدهم يمكن أن تتم النهضة.
وعندما تحدث زويل عن مشروعه في لقاء الأطفال، ورؤيته لأهداف التعليم، لم أستطع إلا أن أتساءل عن كيف يتلقي المشاهدون، وقبلهم المذيعان اللامعان هذه الرؤية. لقد كان زويل واضحا عندما قال إن حشو أذهان الأطفال بالمعلومات ليس هو هدف العملية التعليمية، ولكن اليوم أصبح من الأهمية بمكان رفع قدرتهم علي التفكير، تفكيرا حرا علميا منظما. وبالتالي يمكنهم أن يخرجوا من دائرة الحفظ والاسترجاع إلي قدرة علي الأبداع. في هذه اللحظات نظرت إلي محمود سعد علي وجه التحديد، وقرأت علي وجهه الطيب علامات الارتياح والموافقة، ولكن وفي نفس اللحظة تذكرته يسأل أحد ضيوفه الملتزمين بالتحدث في أمور الدين في برنامجه البيت بيتك أسئلة تفترض في المتحدث أنه قادر علي تحديد من الذي سيحاسب في الآخرة، والطرق التي يمكن بها لمن ترك الصلاة في فترة من عمره أن يعوض ما فاته حتي يحتسب له، وأخذ الحديث يمتد إلي طرق كثيرة، لست بصدد التعرض لها. لا أعترض علي التواصي والنصح، والاجتهاد والمساعدة لم يرد أن يستزيد علما في الدين، ولكن أخشي ما أخشاه هو أن الطريقة التي يطرح بها السؤال، و الأسلوب الذي تتم به الإجابة، ترسل رسالة ضمنية إلي المشاهد أو المستمع إلي أن رجال الدين قادرون علي وصف الطريق إلي الجنة، فما يقولونه سيتحول إلي وصفة عملية لكي يكتسب الإنسان رضا الله سبحانه وتعالي. هنا يتوقف الفكر الإنساني انتظارا إلي ما يقوله رجل الدين، ويتحول الأمر إلي نوعية من السلوك تؤكد علي الشكل وتخلو من المعني والفكر. وهذه البنية العقلية النفسية من شأنها أن تثبط من قدرة العقل علي الانطلاق، بل وقد تخلق صراعا بين متغيرات لا بد من مواجهتها وبين فكر متجمد يريد أن يعبد الماضي.
عندما تحدث زويل عن أهمية تشجيع الأطفال علي التفكير وتدريبهم علي منهجية العلم، فإنه قد أصاب نقطة بالغة الأهمية، ونقصا هاما في فلسفة التعليم في مصر، تظهر جليا في المرحلة الجامعية، حيث إن كثيرا ممن يقدمون إلي الجامعة، خاصة في الأقسام الأدبية، يعتقدون أن المواد الأدبية هي مواد حفظ وليس تفكيراً ومنهجاً وإبداعاً. وإني كثيرا ما أقول لهم "انطلقوا، واخرجوا من القفص الذهبي" فأنا أري أنهم مثل العصافير التي نأخذها من محيطها الطبيعي ونضعها في قفص جميل، وعندما نفتح الباب للعصفور بعد فترة طويلة من حبسه داخل القفص، فإنه يتردد قبل أن يخرج، وإذا خرج فإنه يطير ويقع،
ولايصدق أنه قادر علي التحليق في الفضاء. وهذا ما يحدث تماما بالنسبة لأبنائنا الذين يظلون في المرحلة ما قبل الجامعية ملتزمين بما يقوله المعلم، وما هو مكتوب في الكتاب، بل وتحفظ الإجابات النموذجية حتي في المسائل الرياضية والهندسية، فيفقد العقل قدرته علي الانطلاق. وعندما نطلب من الطالب الجامعي أن يقوم ببحث في إحدي قضايا المنهج، فإنه ينقل ما كتبه غيره ويعيد تفريغه علي الصفحات البيضاء. وعندما يطلب منه أن يفكر ويستخلص أفكارا ويضيف إلي ما قرأ ولا ينقله، فكثيرا ما يقول الطالب "كيف تكون لي هذه القدرة، إن المطلوب لم أتعود عليه، وهو تعجيز بالنسبة لقدراتي". ولكن علينا ألا نعجز مع أبنائا، فهناك وسائل كثيرة يمكن أن نساعدهم بها للانطلاق في الفضاء، حتي لا يظلوا حبيسي القفص إلي الأبد، وحتي يمكن لهم أن يتذوقوا جمال التحليق في سماء الفكر.
إن ما نحتاج إليه بالفعل هو ثورة ثقافية تعليمية إعلامية، لابد أن نضع لها معالم واضحة مع من لهم خبرة زويل وقدراته. ذلك أن التنمية البشرية هي بالفعل كما قال الحائزعلي نوبل هي أساس النهضة، وأننا لا يجب أن نكون مستهلكي علم، ولكن علينا أن نصنع العلم، وهو أمر ليس بعيدا عن قدراتنا، وهو ما يؤكده هؤلاء العلماء الذين أبدعوا وتفوقوا عندما أتيح لهم المناخ العلمي والثقافي المناسب. ويذكر د. زويل تجربته عندما ذهب في أول الأمر إلي جامعة أمريكية، وأجري اختباراً من نوع الاختيارات المتعددة، التي تطلب قدرة عالية علي هضم المادة العلمية، وسرعة في الاستجابة والفهم. فلم يحصل علي درجات عالية، ولكنه ما لبث أن أدرك أن هناك خللا في طريقة استذكاره لتلك المواد، واستطاع أن يتغلب عليه، وهو ما ساعده علي الانطلاق العلمي. ومن أجمل ما قال في هذا الشأن أنه وهو في مقتبل حياته، كان يظن أنه قد استوعب نظريات الكوانتم أو الكم، ولكنه الآن وبعد أن وصل إلي ما وصل إليه، قد أدرك أنه لم يفهم إلا القليل، وأن أمامه وأمام العلماء الكثير من الجهد حتي تكون هذه النظرية مستوعبة ومحققة. إن هذه القصة القصيرة ذات مغزي كبير.
ويظل هناك سؤال حائر أطلقه الكثير من المفكرين وكتبت فيه أقلام كثيرة عن العلاقة بين الدين والعلم، وبين الحداثة والأصالة الحضارية. هل ما نريده أن يكون الإنسان عالما ومفكرا ويهجر دائرة الإيمان حتي يحدث التقدم؟ هذه هي الرؤية السطحية التي عانت منها المجتمعات ذات التاريخ الحضاري المتميز والذي يقوم علي الإيمان في مقابل الحداثة التي تقوم علي العقلانية والمنهج العلمي، فرفضت كل ما أتي من الغرب، أو قبلته علي مضض، فحدث صراع خفي، يخبو أحيانا ثم يظهر مرة أخري علي السطح. والسبب في هذا التناقض غير الحقيقي هو تصور وهمي للتناقض بين العلم والدين.
وعندما نتحدث عن الدين فيجب أن نعود به إلي المفهوم الأصيل، فهو ليس ما نتلقاه من مفاهيم جامدة وأوامر صارمة، وإنما هو تجربة وجدانية روحية يعيشها القلب البشري عندما تتفتح بصيرته علي الجمال والكمال في الوجود، ويستشعر قيما عليا لحياته، حينئذ سيجد في تعاليم الأنبياء وإرشادهم طريقا يكمل به تطلعه الفطري إلي معني للحياة وهدفها، وبهذا يصبح الإيمان دافعا يقف وراء كل عمل يقوم به الإنسان، ولا يحجبه هذا عن التفكير العلمي والانطلاق الفكري، لأنه لا يتقولب في صورة يرسمها له المجتمع أو رجال الدين، ولكنه يتبع فطرته ويزكي قدراته العقلية والقلبية. من شأن الإيمان أن يطلق الطاقات الداخلية، وينمي الحس الإنساني والرباط القدسي الذي يربط بين البشر والكون، بهذا الإيمان تكتمل رؤية الإنسان لرسالته، فتتفجر طاقاته ويحسن اختيار مجال بحثه وعمله، بل إنه يكون مؤهلا بحق كي يفكر بحرية، ويستخدم منهجية منظمة تتيح له أن يتطلع إلي المعرفة دون الزعم بأنه قد أحاط بالحقيقة.
لا أريد أن اكون اختزالية لحديث استغرق أربع ساعات كاملة (من التاسعة مساء إلي الواحدة بعد منتصف الليل) ولكن هذا التأمل حول أحد محاور الحديث الكثيرة والمتعددة عن مستقبل مصر له أهمية بالغة. إن مستقبل مصر الذي تحدث عنه زويل هو في أحد أبعاده رهن بأن يجد المصري نفسه في شخصيته التي لم تنفصل يوما عن البعد الديني، وبين قدرته علي الإبداع الذي هو جزء من تاريخه، وإمكانية لخلق مستقبله، ثم إرادة قوية حتي يصبح الممكن واقعا، وتأخذ مصر مكانتها الحضارية التي تليق بها
زويل ومستقبل مصر
أعتقد أن كثيرين قد استمتعوا بالسهرة التي قدمتها قناة دريم في حوار مع أحمد زويل، ولعل أبرز ما أثار انتباهي في هذا الحوار، حرص د. زويل علي متابعة ما يحدث في مصر، وذلك الاهتمام الذي أبداه في قراءة الأعمال الأدبية، والفكرية التي ينشرها الأدباء والمفكرون المصريون، وأذهلني كذلك هذا التفاؤل بمستقبل مصر، وهو تفاؤل نحتاجه بشدة في ظل تلك النغمة المتشائمة دائما، والتي نسمعها في كل مجلس، دون أن تكون هناك أي رؤية إيجابية في كيفية تغيير الواقع إلي أفضل.
ومن الملاحظ أن تفاؤل زويل مبني علي رؤية واضحة، وليس مجرد أحلام وردية تطير وتتبخر سريعا. ومصدر هذا التفاؤل كما عبر هو إيمان بالشخصية المصرية وقدراتها غير المحدودة علي تحدي الصعوبات. ولعل زويل هو نفسه مثال لما يقول، ليس فقط لأنه قد استطاع أن يحوز علي أكبر جائزة علمية، ولكن أيضا لأنه اعتبر أن هذا الفوز بداية جديدة لمزيد من البحث في دائرة تخصصه من ناحية، فوصل إلي الميكروسكوب الرباعي الأبعاد، وما زال مستمرا في البحث عن المزيد من العلم. ومن ناحية أخري فإن قلبه مع مصر، لم يفقد الأمل بعد أن فشل مشروعه في إنشاء مركز بحثي متميز، وإنما مازال يبحث عن بصيص نور جديد، يقدم من خلاله شيئا إلي بلده الأم. وقد أحسنت مني الشاذلي عندما قرأت نبذة عما قاله العالم عن زويل مؤكدا مصريته، وغير مستبعد لانتمائه إلي وطنه الثاني، ومعبرا عن الاحترام الذي يلاقيه علي مستوي العالم. إن شخصية زويل التي تسعي بشكل مستمر إلي إضافة جديدة علمية وإنسانية هي تعبير عن الأمل في أن تستعيد مصر قدرتها علي إبراز تلك الخصال في أبنائها الذي يعيشون علي أرضها، وبهم وحدهم يمكن أن تتم النهضة.
وعندما تحدث زويل عن مشروعه في لقاء الأطفال، ورؤيته لأهداف التعليم، لم أستطع إلا أن أتساءل عن كيف يتلقي المشاهدون، وقبلهم المذيعان اللامعان هذه الرؤية. لقد كان زويل واضحا عندما قال إن حشو أذهان الأطفال بالمعلومات ليس هو هدف العملية التعليمية، ولكن اليوم أصبح من الأهمية بمكان رفع قدرتهم علي التفكير، تفكيرا حرا علميا منظما. وبالتالي يمكنهم أن يخرجوا من دائرة الحفظ والاسترجاع إلي قدرة علي الأبداع. في هذه اللحظات نظرت إلي محمود سعد علي وجه التحديد، وقرأت علي وجهه الطيب علامات الارتياح والموافقة، ولكن وفي نفس اللحظة تذكرته يسأل أحد ضيوفه الملتزمين بالتحدث في أمور الدين في برنامجه البيت بيتك أسئلة تفترض في المتحدث أنه قادر علي تحديد من الذي سيحاسب في الآخرة، والطرق التي يمكن بها لمن ترك الصلاة في فترة من عمره أن يعوض ما فاته حتي يحتسب له، وأخذ الحديث يمتد إلي طرق كثيرة، لست بصدد التعرض لها. لا أعترض علي التواصي والنصح، والاجتهاد والمساعدة لم يرد أن يستزيد علما في الدين، ولكن أخشي ما أخشاه هو أن الطريقة التي يطرح بها السؤال، و الأسلوب الذي تتم به الإجابة، ترسل رسالة ضمنية إلي المشاهد أو المستمع إلي أن رجال الدين قادرون علي وصف الطريق إلي الجنة، فما يقولونه سيتحول إلي وصفة عملية لكي يكتسب الإنسان رضا الله سبحانه وتعالي. هنا يتوقف الفكر الإنساني انتظارا إلي ما يقوله رجل الدين، ويتحول الأمر إلي نوعية من السلوك تؤكد علي الشكل وتخلو من المعني والفكر. وهذه البنية العقلية النفسية من شأنها أن تثبط من قدرة العقل علي الانطلاق، بل وقد تخلق صراعا بين متغيرات لا بد من مواجهتها وبين فكر متجمد يريد أن يعبد الماضي.
عندما تحدث زويل عن أهمية تشجيع الأطفال علي التفكير وتدريبهم علي منهجية العلم، فإنه قد أصاب نقطة بالغة الأهمية، ونقصا هاما في فلسفة التعليم في مصر، تظهر جليا في المرحلة الجامعية، حيث إن كثيرا ممن يقدمون إلي الجامعة، خاصة في الأقسام الأدبية، يعتقدون أن المواد الأدبية هي مواد حفظ وليس تفكيراً ومنهجاً وإبداعاً. وإني كثيرا ما أقول لهم "انطلقوا، واخرجوا من القفص الذهبي" فأنا أري أنهم مثل العصافير التي نأخذها من محيطها الطبيعي ونضعها في قفص جميل، وعندما نفتح الباب للعصفور بعد فترة طويلة من حبسه داخل القفص، فإنه يتردد قبل أن يخرج، وإذا خرج فإنه يطير ويقع،
ولايصدق أنه قادر علي التحليق في الفضاء. وهذا ما يحدث تماما بالنسبة لأبنائنا الذين يظلون في المرحلة ما قبل الجامعية ملتزمين بما يقوله المعلم، وما هو مكتوب في الكتاب، بل وتحفظ الإجابات النموذجية حتي في المسائل الرياضية والهندسية، فيفقد العقل قدرته علي الانطلاق. وعندما نطلب من الطالب الجامعي أن يقوم ببحث في إحدي قضايا المنهج، فإنه ينقل ما كتبه غيره ويعيد تفريغه علي الصفحات البيضاء. وعندما يطلب منه أن يفكر ويستخلص أفكارا ويضيف إلي ما قرأ ولا ينقله، فكثيرا ما يقول الطالب "كيف تكون لي هذه القدرة، إن المطلوب لم أتعود عليه، وهو تعجيز بالنسبة لقدراتي". ولكن علينا ألا نعجز مع أبنائا، فهناك وسائل كثيرة يمكن أن نساعدهم بها للانطلاق في الفضاء، حتي لا يظلوا حبيسي القفص إلي الأبد، وحتي يمكن لهم أن يتذوقوا جمال التحليق في سماء الفكر.
إن ما نحتاج إليه بالفعل هو ثورة ثقافية تعليمية إعلامية، لابد أن نضع لها معالم واضحة مع من لهم خبرة زويل وقدراته. ذلك أن التنمية البشرية هي بالفعل كما قال الحائزعلي نوبل هي أساس النهضة، وأننا لا يجب أن نكون مستهلكي علم، ولكن علينا أن نصنع العلم، وهو أمر ليس بعيدا عن قدراتنا، وهو ما يؤكده هؤلاء العلماء الذين أبدعوا وتفوقوا عندما أتيح لهم المناخ العلمي والثقافي المناسب. ويذكر د. زويل تجربته عندما ذهب في أول الأمر إلي جامعة أمريكية، وأجري اختباراً من نوع الاختيارات المتعددة، التي تطلب قدرة عالية علي هضم المادة العلمية، وسرعة في الاستجابة والفهم. فلم يحصل علي درجات عالية، ولكنه ما لبث أن أدرك أن هناك خللا في طريقة استذكاره لتلك المواد، واستطاع أن يتغلب عليه، وهو ما ساعده علي الانطلاق العلمي. ومن أجمل ما قال في هذا الشأن أنه وهو في مقتبل حياته، كان يظن أنه قد استوعب نظريات الكوانتم أو الكم، ولكنه الآن وبعد أن وصل إلي ما وصل إليه، قد أدرك أنه لم يفهم إلا القليل، وأن أمامه وأمام العلماء الكثير من الجهد حتي تكون هذه النظرية مستوعبة ومحققة. إن هذه القصة القصيرة ذات مغزي كبير.
ويظل هناك سؤال حائر أطلقه الكثير من المفكرين وكتبت فيه أقلام كثيرة عن العلاقة بين الدين والعلم، وبين الحداثة والأصالة الحضارية. هل ما نريده أن يكون الإنسان عالما ومفكرا ويهجر دائرة الإيمان حتي يحدث التقدم؟ هذه هي الرؤية السطحية التي عانت منها المجتمعات ذات التاريخ الحضاري المتميز والذي يقوم علي الإيمان في مقابل الحداثة التي تقوم علي العقلانية والمنهج العلمي، فرفضت كل ما أتي من الغرب، أو قبلته علي مضض، فحدث صراع خفي، يخبو أحيانا ثم يظهر مرة أخري علي السطح. والسبب في هذا التناقض غير الحقيقي هو تصور وهمي للتناقض بين العلم والدين.
وعندما نتحدث عن الدين فيجب أن نعود به إلي المفهوم الأصيل، فهو ليس ما نتلقاه من مفاهيم جامدة وأوامر صارمة، وإنما هو تجربة وجدانية روحية يعيشها القلب البشري عندما تتفتح بصيرته علي الجمال والكمال في الوجود، ويستشعر قيما عليا لحياته، حينئذ سيجد في تعاليم الأنبياء وإرشادهم طريقا يكمل به تطلعه الفطري إلي معني للحياة وهدفها، وبهذا يصبح الإيمان دافعا يقف وراء كل عمل يقوم به الإنسان، ولا يحجبه هذا عن التفكير العلمي والانطلاق الفكري، لأنه لا يتقولب في صورة يرسمها له المجتمع أو رجال الدين، ولكنه يتبع فطرته ويزكي قدراته العقلية والقلبية. من شأن الإيمان أن يطلق الطاقات الداخلية، وينمي الحس الإنساني والرباط القدسي الذي يربط بين البشر والكون، بهذا الإيمان تكتمل رؤية الإنسان لرسالته، فتتفجر طاقاته ويحسن اختيار مجال بحثه وعمله، بل إنه يكون مؤهلا بحق كي يفكر بحرية، ويستخدم منهجية منظمة تتيح له أن يتطلع إلي المعرفة دون الزعم بأنه قد أحاط بالحقيقة.
لا أريد أن اكون اختزالية لحديث استغرق أربع ساعات كاملة (من التاسعة مساء إلي الواحدة بعد منتصف الليل) ولكن هذا التأمل حول أحد محاور الحديث الكثيرة والمتعددة عن مستقبل مصر له أهمية بالغة. إن مستقبل مصر الذي تحدث عنه زويل هو في أحد أبعاده رهن بأن يجد المصري نفسه في شخصيته التي لم تنفصل يوما عن البعد الديني، وبين قدرته علي الإبداع الذي هو جزء من تاريخه، وإمكانية لخلق مستقبله، ثم إرادة قوية حتي يصبح الممكن واقعا، وتأخذ مصر مكانتها الحضارية التي تليق بها